سورة التوبة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله تعالى: {وَآخَرُونَ} أي: ومن أهل المدينة، أو: من الأعراب آخرون، ولا يرجع هذا إلى المنافقين، {اعْتَرَفُوا} أقرُّوا، {بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا} وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم {وَآخَرَ سَيِّئًا} أي: بعمل آخر سيئ، وضع الواو موضع الباء، كما يقال: خلطت الماء واللبن، أي: باللبن.
والعمل السيئ: هو تخلُّفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعمل الصالح: هو ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسواري وقيل: غزواتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} نزلت هذه الآية في قوم تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم ندموا على ذلك، وقالوا: نكون في الظلال مع النساء، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء! فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قالوا والله لَنُوثِقَنَّ أنفسنا بالسواري فلا نُطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، ويعذرنا، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بهم فرآهم فقال: مَنْ هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله عز وجل أن لا يُطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم وترضى عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله لا أُطْلِقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم، رغبوا عني وتَخَلَّفوا عن الغزو مع المسلمين! فأنزل الله هذه الآية فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خَلَّفَتْنا عنك فتصدق بها وطَهِّرْنَا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا»، فأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
واختلفوا في أعداد هؤلاء التائبين، فروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانوا عشرة منهم أبو لبابة. وروى عطية عنه: أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقال الضحاك وقتادة: كانوا سبعة. وقالوا جميعا: أحدهم أبو لبابة.
وقال قوم: نزلت في أبي لبابة خاصة. واختلفوا في ذنبه، قال مجاهد: نزلت في أبي لبابة حين قال لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه.
وقال الزهري: نزلت في تخلفه عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية، وقال: والله لا أحلُّ نفسي ولا أذوق طعاما ولا شرابا، حتى أموت أو يتوب الله علي! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقيل له: قد تِيْبَ عليك!، فقال: والله لا أحلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث.
قالوا جميعا: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم، وترك الثلثين، لأن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ولم يقل: خذ أموالهم. قال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا.


قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} بها من ذنوبهم، {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي: ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين. وقيل: تنمي أموالهم {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم واستغفر لهم. وقيل: هو قول الساعي للمصدق إذا أخذ الصدقة منه: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. والصلاة في اللغة: الدعاء. {إِنَّ صَلاتَكَ} قرأ حمزة والكسائي: {صلاتك} على التوحيد؛ ونصب التاء هاهنا وفي سورة هود {أصلاتك} وفي سورة المؤمنين {على صلاتهم} كلهن على التوحيد وافقهما حفص هاهنا وفي سورة هود. وقرأ الآخرون بالجمع فيهن ويكسرون التاء ها هنا.
{سَكَنٌ لَهُمْ} أي: إن دعاءك رحمة لهم. قاله ابن عباس. وقيل: طمأنينة لهم، وسكون لهم، أن الله عز وجل قد قَبِلَ منهم. وقال أبو عبيدة: تثبيتٌ لقلوبهم. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة: قال بعضهم: يجب. وقال بعضهم: يُستحب. وقال بعضهم: يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع. وقيل: يجب على الإمام، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن أبي أوْفَى- وكان من أصحاب الشجرة- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوْمُه بصدقة قال: «اللهم صلِّ عليهم»، فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى».
وقال ابن كيسان: ليس هذا في صدقة الفرض إنما هو في صدقة كفارة اليمين.
وقال عكرمة: هي صدقة الفرض، فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلّفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يُكَلَّمُونَ ولا يُجَالَسُون، فما لهم؟


فقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} أي: يقبلها، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أنبأنا الربيع بن سليمان، أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كأنما يضعها في يد الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى إن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم»، ثم قرأ: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}.
قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قال مجاهد: هذا وعيد لهم. قيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بإعلام الله تعالى إياه، ورؤية المؤمنين بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح، والبغضة لأهل الفساد.
قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي بكر: {مرجون} بغير همز، والآخرون: بالهمز، والإرجاء: التأخير، مرجون: مؤخرون. لأمر الله: لحكم الله عز وجل فيهم، وهم الثلاثة الذين تأتي قصتهم من بعدُ: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم، حتى شقَّهم القلق وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وكانوا من أهل بدر فجعل أناس يقولون: هلكوا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فصاروا مُرْجَئِيْنَ لأمر الله لا يدرون أيعذبهم أم يرحمهم، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة.

12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19